فصل: سنة أربع عشر ومائتين وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة أربع عشر ومائتين وألف:

.شهر المحرم سنة 1214:

ثم دخلت سنة أربع عشر ومائتين وألف، واستهل شهر المحرم بيوم الأربعاء فيه حضر جماعة من الفرنسيس الى العادلية فضربوا خمسة مدافع لقدومهم، فلما كان في ثاني يوم عملوا الديوان وأبرزوا مكتوباً مترجماً ونسخته: صورة جواب من العرضي قدام عكا، وفي سابع عشرين فريبال الموافق لحادي عشر شهر الحجة 1213 من بونابارته ساري عسكر أمير الجيوش الفرنساوية الى محفل ديوان مصر، نخبركم عن سفره من بر الشام الى مصر، فإني بغاية العجلة بحضوري لطرفكم نسافر بعد ثلاثة أيام تمضي من تاريخه ونصل عندكم بعد خمسة عشر يوماً وجائب معي جملة محابيس بكثرة وبيارق ومحقت سراية الجزار وسور عكا وبالقنبر هدمت البلد ما أبقيت فيها حجراً على حجر وجميع سكانها انهزموا من البلد الى طريق البحر والجزار مجروح ودخل بجماعته داخل برج من ناحية البحر وجرحه يبلغ لخطر الموت، ومن جملة ثلاثين مركباً موسوقة عساكر الذين حضروا يساعدون الجزار ثلاثة غرقت من كثرة مدافع مراكبنا وأخذنا منها أربعة موقرة مدافع والذي أخذ هذه الأربعة فرقاطة من بتوعنا والباقي تلف وتبهدل والغالب منهم عدم وإني بغاية الشوق الى مشاهدتكم، لأني بشوف أنكم عملتم غاية جهدكم من كل قلبكم لكن جملة فلاتية دائرون بالفتنة لأجل ما يحركون الشر في وقت دخولي، كل هذا يزول مثل ما يزول الغيم عند شروق الشمس ومنتوره مات من تشويش هذا الرجل صعب علينا جداً والسلام. منتوره هذا ترجمان ساري عسكر وكان لبيباً متبحراً ويعرف باللغة التركية والعربية والرومية والطلياني والفرنساوي، ولما عجز الفرنساوية عن أخذ عكا وعزموا على الرجوع الى مصر أرسل بونابارته مكاتبة الى الفرنساوية المقيمين بمصر يقول فيها إن الأمر الموجب للانتقال عن محاصرة عكا خمسة عشر سبباً.
الأول، الإقامة تجاه البلدة وعدم الحرب ستة أيام الى أن جاءت الانكليز وحصنوا عكا باصطلاح الإفرنج.
الثاني، الستة مراكب التي توجهت من الإسكندرية فيها المدافع الكبار أخذها الانكليز قدام يافا.
الثالث، الطاعون الذي وقع في العسكر ويموت كل يوم خمسون وستون عسكرياً.
الرابع، عدم الميرة لخراب البلاد قريب عكا.
الخامس، وقعة مراد بك مع الفرنساوية في الصعيد مات فيها مقدار ثلثمائة فرنساوي.
السادس، بلغنا توجه أهل الحجاز صحبة الجيلاني لناحية الصعيد.
السابع، المغربي محمد الذي صار له جيش كبير وادعى أنه من سلاطين المغرب.
الثامن، ورود الانكليز تجاه الإسكندرية ودمياط.
التاسع، ورود عمارة الموسقو قدام رودس.
العاشر، ورود خبر نقض الصلح بين الفرنساوية والنيمساء.
الحادي عشر، ورود جواب مكتوب منا لتيبو أحد ملوك الهند كنا أرسلناه قبل توجهنا لعكا. وتيبو هذا هو الذي كان حضر الى اسلامبول بالهدية التي من جملتها طائران يتكلمان بالهندية والسرير والمنبر من خشب العود، وطلب منه الإمداد والمعاونة على الانكليز المحاربين له في بلاده فوعدوه ومنوه وكتبوا له أوراقاً وأوامر وحضر الى وذلك في سنة 1202 أيام السلطان عبد الحميد وقد سبقت الإشارة إليه في حوادث تلك السنة، وهو رجل كان مقعداً تحمله أتباعه في تخت لطيف بديع الصنعة على أعناقهم، ثم إنه توجه الى بلاد فرانسا واجتمع بسلطانها وذلك قبل حضوره الى مصر واتفق معه على أمر في السر لم يطلع أحد غيرهما ورجع الى بلاده على طريق القلزم، فلما قدم الفرنساوية لمصر كاتبه كبيرهم بذلك السر لأنه اطلع عليه عند قيام الجمهور وتملكه خزانة كتب السلطان ثم إن تيبو المذكور بقي في حرب الانكليز الى أن ظفروا به في هذه السنة وقتلوه وثلاثة من أولاده فهذا ملخص معنى السبب.
الثاني عشر، موت كفرللي الذي عملت المتاريس بمقتضي رأيه وإذا تولى أمرها غيره يلزم نقضها ويطول الأمر وكفرللي هذا هو المعروف بأبي خشبة المهندس.
الثالث عشر، سماع أن رجلاً يقال له مصطفى باشا أخذه الانكليز من اسلامبول ومرادهم أن يرموه على بر مصر.
الرابع عشر، أن الجزار أنزل ثقله بمراكب الانكليز وعزم على أنه عندما تملك البلد ينزل في مراكبهم ويهرب معهم.
الخامس عشر، لزوم ومحاصرة عكا ثلاثة شهور أو أربعة وهو مضر لكل ما ذكرناه من الأسباب، انتهى.
وفي يوم الثلاثاء سابعه، حضر جماعة أيضاً من العسكر بأثقالهم وحضرت مكاتبة من كبير الفرنساوية أنه وصل الى اصالحية وأرسل دوجا الوكيل ونبه على الناس بالخروج لملاقاته بموجب ورقة حضرت من عنده يأمر بذلك.
فلما كان ليلة الجمعة عاشره أرسلوا الى المشايخ والوجاقات وغيرهم فاجتمعوا بالأزبكية وقت الفجر بالمشاعل ودقت الطبول وحضر الحكام والقلات بمواكب وطبول وزمور ونوبات تركية وطبول شامية وملازمون وجاويشية وغير ذلك، وحضر الوكيل وقائمقام وأكابر عساكرهم وركبوا جميعاً بالترتيب من الأزبكية الى أن خرجوا الى العادلية فقابلوا ساري عسكر بونابارته هناك، وسلموا عليه ودخل معهم الى مصر من باب النصر بموكب هائل بعساكرهم وطبولهم وزمورهم وخيولهم وعرباتهم ونسائهم وأطفالهم في نحو خمس ساعات من النهار، الى أن وصل الى داره بالأزبكية وانفض الجمع وضربوا عدة مدافع عند دخولهم المدينة، وقد تغيرت ألوان العسكر القادمين واصفرت ألوانهم وقاسوا مشقة عظيمة من الحر والتعب وأقاموا على حصار عكا أربعة وستين يوماً حرباً مستقيماً ليلاً ونهاراً، وأبلى أحمد باشا وعسكره بلاء حسناً وشهد له الخصم.
وفيه قبضوا على إسمعيل القلق الخربطلي وهو المتولي كتخدا العزب وكان ساكناً بخط الجمالية، وأخذوا سلاحه وأصعدوه الى القلعة وحبسوه، والسبب في ذلك أنه عمل في تلك الليلة وليمة ودعا أحبابه وأصدقاءه وأحضر لهم آلات اللهو والطرب وبات سهراناً بطول الليل، فلما كان آخر الليل غلب عليهم السهر والسكر فناموا الى ضحوة النهار وتأخر عن الملاقاة، فلما أفاق ركب ولاقاهم عند باب النصر فنقموا عليه بذلك وفعلوا معه ما ذكر، ولما وصل ساري عسكر الفرنساوية الى داره بالأزبكية تجمع هناك أرباب الملاهي والبهالوين وطوائف الملاعبين والحواة والقرادين والنساء الراقصات والخلابيض ونصبوا أراجيح مثل أيام الأعياد والمواسم، واستمروا على ذلك ثلاثة أيام، وفي كل يوم من تلك الأيام يعملون شنكاً وحراقات ومدافع وسواريخ، ثم انفض الجمع بعد ما أعطاهم ساري عسكر دراهم وبقاشيش.
وفي يوم الأحد، عزلوا دستان قائمقام وتولى عوضه دوجا الذي كان وكيلاً عن ساري عسكر. وتهيأ المعزول للسفر الى جهة بحري وأصبح مسافراً وصحبته نحو الألف من العسكر، وسافر أيضاً منهم طائفة الى جهة البحيرة.
وفيه طلبوا من طوائف النصارى دراهم سلفة مقدار مائة وعشرين ألف ريال.
وفي خامس عشره أرسلوا الى زوجات حسن بك الجداوي وختموا على دورهن ومتاعهن وطالبوهن بالمال، وذلك لسبب أن حسن بك التف على مراد بك وصار يقاتل الفرنسيس معه. وقد كانت الفرنسيس كاتبت حسن بك وأمنته وأقرته على ما بيده من البلاد، وأن لا يخالف ويقاتل مع الأخصام فلم يقبل منهم ذلك، فلما وقع لنسائه ذلك ذهبن الى الشيخ محمد المهدي ووقعن عليه فصالح عليهن بمبلغ ثلاثة آلاف فرانسة.
وفي تاسع عشره هلك مخاييل كحيل النصراني الشامي وهو من رجال الديوان الخصوصي فجأة وذلك لقهره وغمه، وسبب ذلك أنهم قرروا عليه في السلفة ستة آلاف ريال فرانسة، وأخذ في تحصيلها، ثم بلغه أن أحمد باشا الجزار قبض على شريكه بالشام واستصفى ما وجده عنده من المال، فورد عليه الخبر وهو جالس يتحدث مع إخوانه حصة من الليل فخرجت روحه في الحال.
وفيه كتبوا أوراقاً وطبعوها وألصقوها بالأسواق وذلك بعد أن رجعوا من الشام واستقروا وهي من ترصيف وتنميق بعض الفصحاء.
وصورتها: من محفل الديوان الخصوصي بمحروسة مصر خطاباً لأقاليم مصر الشرقية والغربية والمنوفية والقليوبية والجيزة والبحيرة، النصيحة من الإيمان، قال تعالى في محكم القرآن: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، وقال تعالى وهو أصدق القائلين في الكتاب المكنون: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}، فعلى العاقل أن يتدبر في الأمور قبل أن يقع في المحذور، نخبركم معاشر المؤمنين أنكم لا تسمعوا كلام الكاذبين فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، وقد حضر الى محروسة مصر المحمية أمير الجيوش الفرنساوية حضرة بونابارته محب الملة المحمدية ونزل بعسكره في العادلية سليماً من العطب والأسقام، ودخل الى مصر من باب النصر يوم الجمعة في موكب عظيم وشنك جليل فخيم وصحبته العلماء والوجاقات السلطانية وأرباب الأقلام الديوانية وأعيان التجار المصرية، وكان يوماً عظيماً مشهوداً، وخرجت أهل مصر لملاقاته فوجدوه وهو الأمير الأول بذاته وصفاته وظهر لهم أن الناس يكذبون عليه شرح الله صدره للإسلام، والذي أشاع عنه الأخبار الكاذبة العربان الفاجرة والغز الهاربة، ومرادهم بهذه الإشاعة هلاك الرعية وتدمير أهل الملة الإسلامية وتعطيل الأموال الديوانية، لا يحبون راحة العبيد، وقد أزال الله دولتهم من شدة ظلمهم أن بطش ربك لشديد، وقد بلغنا أن الألفي توجه الى الشرقية مع بعض المجرمين من عربان بلي والعيايدة الفجرة المفسدين يسعون في الأرض بالفساد وينهبون أموال المسلمين، إن ربك لبالمرصاد، ويزورون على الفلاحين المكاتيب الكاذبة ويدعون أن عساكر السلطان حاضرة والحال أنها ليس بحاضرة، فلا أصل لهذا الخبر ولا صحة لهذا الأثر، وإنما مرادهم وقوع الناس في الهلاك والضرر مثل ما كان يفعل ابراهيم بك في غزة، حيث كان، ويرسل فرمانات بالكذب والبهتان، ويدعي أنها من طرف السلطان ويصدقه أهل الأرياف خسفاء العقول ولا يقرأون العواقب فيقعون في المصائب وأهل الصعيد طردوا الغز من بلادهم خوفاً على أنفسهم وهلاك عيالهم وأولادهم، فإن المجرم يؤخذ مع الجيران وقد غضب الله على الظلمة ونعوذ بالله من غضب الديان، فكان أهل الصعيد أحسن عقلاً من أهل بحري بسبب هذا الرأي السديد، ونخبركم أن أحمد باشا الجزار سموه بهذا الاسم لكثرة قتله الأنفس، ولا يفرق بين الأخيار والأشرار وقد جمع الطموش الكثيرة من العسكر والغز والعرب وأسافل العشيرة وكان مراده الاستيلاء على مصر وأقاليمها وأحبوا اجتماعهم عليه لأجل أخذ أموالها وهتك حريمها، ولكن لم تساعده الأقدار، والله يفعل ما يشاء ويختار، وقد كان أرسل بعض هذه العساكر الى قلعة العريش ومراده أن يصل الى قطيا فتوجه حضرة ساري عسكر أمير الجيوش الفرنساوية وكسر عسكر الجزار الذين كانوا في العريش، ونادوا: الفرار الفرار بعدما حصل بعسكرهم القتل والدمار وكانوا نحو ثلاثة آلاف، وملك قلعة العريش وأخذ غزة وهرب من كان فيها، وفروا، ولما دخل غزة نادى في رعيتها بالأمان وأمر بإقامة الشعائر الإسلامية وإكرام العلماء والتجار والأعيان، ثم انتقل الى الرملة وأخذ ما فيها من بقسماط وأرز وشعير وقرب أكثر من ألفي قربة كبار كان قد جهزها الجزار لذهابه الى مصر، ثم توجه الى يافا وحاصرها ثلاثة أيام ثم أخذها وأخذ ما فيها من ذخائر الجزار بالتمام، ومن نحوسات أهلها أنهم لم يرضوا بأمانه ولم يدخلوا تحت طاعته وإحسانه فدور فيهم السيف من شدة غيظه وقوة بأسه وسلطانه وقتل منهم نحو أربعة آلاف أو يزيدون، بعدما هدم سورها وأكرم من كان بها من أهل مصر وأطعمهم وكساهم وجهزهم في المراكب الى مصر، وغفرهم بعسكره خوفاً عليهم من العربان، وأجزل عطاياهم، وكان في يافا نحو خمسة آلاف من عسكر الجزار هلكوا جميعاً وبعضهم ما نجاه إلا الفرار، ثم توجه من يافا الى جبل نابلس فكسر من كان فيه من العساكر بمكان يقال له فاقوم وحرق خمسة بلاد من بلادهم وما قدر كان، ثم أخرب سور عكا وهدم قلعة الجزار التي كانت حصينة لم يبق فيها حجر على حجر، حتى إنه يقال كان هناك مدينة وقد كان بني حصارها وشيد بنيانها في نحو عشرين من السنين، وظلم في بنيانها عباد الله، وهكذا عاقبة بنيان الظالمين، ولما توجه إليه أهل بلاد الجزار من كل ناحية كسرهم كسرة شنيعة، فهل ترى لهم من باقية نزل عليهم كصاعقة من السماء، ثم توجه راجعاً الى مصر المحروسة لأجل شيئين: المحروسة لأجل شيئين: الأول: أنه وعدنا برجوعه إلينا بعد أربعة أشهر والوعد عند الحردين.
والسبب الثاني: أنه بلغه أن بعض المفسدين من الغز والعربان يحركون في غيابه الفتن والشرور في بعض الأقاليم والبلدان، فلما حضر سكنت الفتنة وزالت الأشرار والفجرة من الرعية، وحبه لمصر وأقاليمها شيء عجيب ورغبته في الخير لأهلها ونيلها بفكره وتدبيره المصيب، ويرغب أن يجعل فيها أحسن التحف والصناعة، ولما حضر من الشام أحضر معه جملة من الأسارى من خاص وعام وجملة مدافع وبيارق اغتنمها في الحروب من الأعداء والأخصام، فالويل كل الويل لمن عاداه والخير كل الخيرلمن والاه، فسلموا يا عباد الله وارضوا بتقدير الله وامتثلوا لأحكام الله، ولا تسعوا في سفك دمائكم وهتك عيالكم ولا تتسببوا في نهب أموالكم ولا تسمعوا كلام الغز الهربانين الكاذبين ولا تقولوا إن في الفتنة إعلاء كلمة الدين، حاشا الله لم يكن فيها إلا الخذلان وقتل الأنفس وذل أمة النبي عليه الصلاة والسلام. والغز والعربان يطمعوكم ويغروكم لأجل أن يضروكم فينهبوكم، وإذا كانوا في بلد وقدمت عليهم الفرنسيس فروا هاربين منهم كأنهم جند إبليس، ولما حضر ساري عسكر الى مصر أخبر أهل الديوان من خاص وعام أنه يحب دين الإسلام ويعظم النبي عليه الصلاة والسلام ويحترم القرآن ويقرأ منه كل يوم بإتقان، وأمر بإقامة شعائر المساجد الإسلامية وإجراء خيرات الأوقاف السلطانية، وأعطى عوائد الوجاقلية وسعى في حصول أقوات الرعية فانظروا هذه الألطاف والمزية ببركة نبينا أشرف البرية، وعرفنا أن مراده أن يبني لنا مسجداً عظيماً بمصر لا نظير له في الأقطار، وأنه يدخل في دين النبي المختار عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، انتهى بحروفه.
وكان أشيع بمصر قبل مجيئهم وعودهم من الشام بأن ساري عسكر بونابارته مات بحرب عكا وتناقله الناس، وأنهم ولوا أخلافه، فهذا هو السبب في قولهم في ذلك الطومار: وقد حضر سليماً من العطب فوجدوه هو الأمير الأول بذاته وصفاته الى آخر السياق المتقدم.
وفي ثاني عشرينه، أرسل ساري عسكر جماعة من العسكر وقبضوا على ملا زاده ابن قاضي العسكر ونهبوا بعضاً من ثيابه وكتبه وطلعوا به الى القلعة، فانزعج عليه عياله وحريمه ووالدته انزعاجاً شديداً، وفي صبحها اجتمع أرباب الديوان بالديوان وحضر إليهم ورقة من كبير الفرنسيس قرئت عليهم مضمونها أن ساري عسكر قبض على ابن القاضي وعزله وأنه وجه إليكم أن تقترعوا وتختاروا شيخاً من العلماء يكون من أهل مصر ومولوداً بها، يتولى القضاء ويقضي بالأحكام الشرعية، كما كانت الملوك المصرية يولون القضاء برأي العلماء للعلماء، فلما سمعوا ذلك أجاب الحاضرون بقولهم: إننا جميعاً نتشفع ونترجى عنده في العفو عن ابن القاضي فإنه إنسان غريب، ومن أولاد الناس الصدور وإن كان والده وافق كتخدا الباشا في فعله فولده مقيم تحت أمانكم، والمرجو انطلاقه وعوده الى مكانه فإن والدته وجدته وعياله في وجد وحزن عظيم عليه، وساري عسكر من أهل الشفقة والرحمة، وتكلم الشيخ السادات بنحو ذلك، وزاد في القول بأن قال: وأيضاً إنكم تقولوا دائماً إن الفرنساوية أحباب العثمانية وهذا ابن القاضي من طرف العثملي، فهذا الفعل مما يسيء الظن بالفرنساوية ويكذب قولهم، وخصوصاً عند العامة، فأجاب الوكيل بعدما ترجم له الترجمان بقوله لا بأس بالشفاعة ولكن بعد تنفيذ أمر ساري عسكر في اختيار قاض خلافه وألا تكونوا مخالفين ويلحكم الضرر بالمخالفة، فامتثلوا وعملوا القرعة فطلعت الأكثرية باسم الشيخ أحمد العريشي الحنفي، ثم كتبوا عرضحال بصورة المجلس والشفاعة وكتب عليه الحاضرون، وذهب به الوكيل الى ساري عسكر وعرفه بما حصل وبما تكلم به الشيخ السادات فتغير خاطره عليه وأمر بإحضاره آخر النهار، فلما حضر لامه وعاتبه، فتكلم بينهما الشيخ محمد المهدي ووكيل الديوان الفرنساوي بالديوان حتى سكن غيظه وأمره بالانصراف الى منزله بعد أن عوقه حصة من الليل، فلما أصبح يوم الجمعة عملوا جمعية في منزل دوجا قائمقام وركبوا صحبته الى بيت ساري عسكر ومعهم الشيخ أحمد العريشي، فألبسه فروة مثمنة وركبوا جميعاً الى المحكمة الكبيرة بين القصرين، ووعدهم بالإفراج عن ابن القاضي بعد أربع وعشرين ساعة، وقد كانت عياله انتقلوا من خوفهم الى دار السيد أحمد المحروقي وجلسوا عنده، ولما كان في ثاني يوم أفرجوا عنه ونزل الى عياله وصحبته أرباب الديوان والآغا ومشوا معه في وسط المدينة ليراه الناس ويبطل القيل والقال.
وفي تلك الليلة قتلوا شخصين: أحدهما علي جاويش رئيس الريالة الذي كان بالإسكندرية عند حضور الفرنسيس، والثاني قبطان آخره فلم يزالا بمصر يحبسونهما أياماً ثم يطلقونهما فحبسوهما آخراً فلم يطلقوهما حتى قتلوهما.
وفي صبيحة ذلك اليوم، قتلوا شخصين أيضاً من الأتراك بالرميلة.
وفيه أفرجوا عن زوجات حسن بك الجداوي.
وفي ثامن عشرينه جمعوا الوجاقلية وكتبوا أسماءهم.
وفي تاسع عشرينه، قبضوا على ثلاثة أنفار أحدهم يسمى حسن كاشف من أتباع أيوب بك الكبير، وآخر يسمى أبو كلس والثالث رجل تاجر من تجار خان الخليلي يسمى حسين مملوك الدالي ابراهيم فسجنوهم بالقلعة، فتشفع الشيخ السادات في حسين التاجر المذكور فأطلقوه على خمسة آلاف فرانسة.

.شهر صفر سنة 1214:

واستهل شهر صفر الخير بيوم الجمعة، فيه أفرجوا عن بعض قرابة كتخدا الباشا وكان محبوساً بالجيزة ثم نقل الى القلعة مع كتخدا قريبه فأطلق وبقي الآخر.
وفي يوم الأحد ثالثه، حضر السيد عمر أفندي نقيب الأشراف سابقاً من دمياط الى مصر وكان مقيماً هناك من بعد واقعة يافا، ونزل مع الذين أنزلوهم من يافا الى البحر وفيهم عثمان أفندي العباسي وحسن أفندي كاتب الشهر وأخوه قاسم أفندي وأحمد أفندي عرفة والسيد يوسف العباسي والحاج قاسم المصلي وغيرهم، فمنهم من عوق بالكرنتيلة ومنهم من حضر من البر خفية فحضر بعض الأعيان لملاقاة السيد عمر وركبوا معه، بعد أن مكث هنيهة بزاوية علي بك التي بساحل بولاق، حتى وصل الى داره وتوجه في ثاني يوم مع المهدي وقابل ساري عسكر فبش له ووعده بخير ورد إليه بعض تعلقاته، واستمر مقيماً بداره والناس تغدو وتروح إليه على العادة.
وفي رابعه حضر أيضاً حسن كتخدا الجربان بأمان وكان بصحبته عثمان بك الشرقاوي، وفيه أشيع أن مراد بك ذهب الى ناحية البحيرة فراراً من الفرنسيس الذين بالصعيد.
وفي خامسه قتلوا عبد الله آغا أمير يافا وكان أخذ أسيراً وحبس ثم قتل.
وفيه قتل أيضاً يوسف جربجي أبو كلس ورفيقه حسن كاشف.
وفي سادسه عمل الشيخ محمد المهدي وليمة عرس لزواج أحد أولاده ودعا ساري عسكر وأعيان الفرنساوية فتعشوا عنده وذهبوا.
وفيه أحضروا أربعة عشر مملوكاً أسرى وأصعدوهم الى القلعة، قيل إنهم كانوا لاحقين بمراد بك بالبحيرة فآووا الى قبة يستظلون بها وتركوا خيولهم مع السواس، فنزل عليهم طائفة من العرب فأخذوا الخيول فمروا مشاة، فدل الفلاحون عليهم عسكر الفرنسيس فمسكوهم، وقيل إهم آووا الى بلده وطلبوا منهم غرامة فصالحوهم فلم يرضوا بذلك بدون ما طلبوا، فوعدوهم بالدفع من الغد، وكانوا أكثر من ذلك، وفيهم كاشف من جماعة عثمان بك الطنبرجي فذهب الفلاحون الى الفرنسيس وأعلموهم بمكانهم فحضروا إليهم ليلاً وفر من فر منهم وقتل من قتل وأسر الباقي، وأما الكاشف فيسمى عثمان التجأ الى كبير الفرنسيس فحماه وأخذه عنده وأحضروا الأسرى الى مصر وعليهم ثياب زرق وزعابيط وعلى رؤوسهم عراقي من لباد وغيره وأصعدوهم الى القلعة وقتلوا منهم في ثاني ليلة أشخاصاً.
وفي تاسعه، أحضروا أيضاً ستة أشخاص من المماليك وأصعدوهم الى القلعة وفي ذلك اليوم قتلوا أيضاً نحو العشرة من الأسرى المحابيسز.
وفي يوم الأحد عاشره ركب في عصريته ساري عسكر وعدى الى بر الجيزة وتبعته العساكر، ولم يعلم سبب ذلك، ولما صاروا بالجيزة ضربوا نجع البطران ودهشور بسبب نزول مراد بك عندهم، وفي هذا اليوم ظهر أن مراد بك رجع ثانياً الى الصعيد وشاع الخبر أيضاً أن عثمان بك الشرقاوي وسليمان آغا الوالي وآخرين مروا من خلف الجبل وذهبوا الى ناحية الشرق، فخرج عليهم جماعة من العسكر وفيهم برطلمين يني الرومي رئيس عسكر الأروام ومعهم عدة وافرة من أخلاط العسكر أروام وقبط والمماليك المنضمة إليهم وبعض فرنساوية. فأدركوهم بالقرب من بلبيس وأتوهم من خلاف الطريق المسلوكة، فدهموهم على حين غفلة. وكان عثمان بك يغتسل، فلما أحسوا بهم بادروا للفرار وركبوا وركب عثمان بك بقميص واحد على جسده وطاقية فوق رأسه وهربوا، وتركوا ثيابهم ومتاعهم وحملتهم، وقدور الطعام على النار، ولم يمت منهم إلا مملوكان وأسروا منهم إثنين، ووجدوا على فراش عثمان بك مكاتبة من ابراهيم بك يستدعيهم الى الحضور إليه بالشام.
وفي ليلة الاثنين حادي عشره وردت أخبار ومكاتيب مع السعاة لبعض الناس من الإسكندرية وأبي قير وأخبروا بأنه وردت مراكب فيها عسكر عثمانية الى أبي قير فتبين أن حركة الفرنساوية وتعديتهم الى البر الغربي بسبب ذلك، وأخذوا صحبتهم جرجس الجوهري وفي ضحوة اليوم الثاني عدى الكثير من العسكر أيضاً واهتم حنا بينو المتولي على بحر بولاق بجمع المراكب وشحنها بالقومانية والذخيرة، وداخل الفرنساوية من ذلك وهم كبير، ولما عدى كبيرهم الى بر الجيزة أقام يوم الاثنين عند الأهرام حتى تجمعت العساكر وبعث بالمقدمة. وركب هو في يوم الثلاثاء ثاني عشره، وأرسل مكتوباً الى أرباب الديوان بالسلام عليهم والوصية بالمحافظة وضبط البلد والرعية كما فعلوا في غيبته السابقة.
وفي سادس عشره، ورد الخبر بأن عثمان خجا وصل الى قلعة أبي قير صحبة السيد مصطفى باشا فضربوا على القلعة وقاتلوا من بها من الفرنشاوية وملكوها وأسروا من بقي بها وعثمان خجا هذا هو الذي كان متولياً إمارة رشيد من طرف صالح بك وحج معه ورجع صحبته الى اشام، فلما توفي صالح بك سافر الى الديار الرومية وحضر صحبة مصطفى باشا المذكور. فلما تحققت هذه الأخبار كثر اللغط في الناس وأظهروا البشر وتجاهروا بلعن النصارى، واتفق أنه تشاجر بعض المسلمين بحارة البرابرة بالقرب من كوم الشيخ سلامة مع بعض نصارى الشوام، فقال المسلم للنصراني إن شاء الله تعالى بعد أربعة أيام نشتفي منكم وكلام من هذا المعنى، فذهب هذا النصراني الى الفرنسيس مع عصبة من جنسه وأخبروهم بالقصة وزادوا وحرفوا وعرفوهم أن قصد المسلمين إثارة فتنة، فأرسل قائمقام الى الشيخ المهدي وتكلم معه في شأن ذلك وحاججه وأصبحوا فاجتمعوا بالديوان، فقام المهدي خطيباً وتكلم كثيراً ونفى الريبة وكذب أقوال الأخصام، وشدد في تبرئة المسلمين، عما نسب إليهم وبالغ في الحطيطة والانتقاص من جانب النصارى، وهذا المقام من مقاماته المحمودة، ثم جمعوا مشايخ الأخطاط والحارات.
وفي ثامن عشره، وردت أخبار وعدة مكاتيب لكثير من الأعيان والتجار، وكلها على نسق واحد تزيد عن المائة، مضمونها بأن المسلمين وعسكر العثمانيين ومن معهم ملكوا الإسكندرية في ثالث ساعة من يوم السبت سادس عشر صفر، فصار الناس يحكي بعضهم لبعض، ويقول ابعض: أنا قرأت المكتوب الواصل الى فلان التاجر، ويقول الآخر مثل ذلك، ولم يكن لذلك أصل ولا صحة ولم يعلم من فعل هذه الفعلة واختلق هذه النكتة، ولعلها من فعل بعض النصارى البلديين ليوقعوا بها فتنة في الناس ينشأ منها القتل فيهم والأذية لهم وسبحان الله علام الغيوب.
وفي ليلة الأربعاء عشرينه، أشيع أن الفرنساوية تحاربوا مع العساكر الواردين على أبي قير. وأخذوا مصطفى باشا أسيراً وكذلك عثمان خجا وغيرهم، وأخبر الفرنسيس أنه حضرت لهم مكاتبة بذلك من أكابرهم، فلما طلع النهار ضربوا مدافع كثيرة من قلعة الجبل وباقي القلاع المحيطة وبصحن الأزبكية وعملوا في ليلتها، أعني ليلة الأربعاء، حراقة بالأزبكية من نفوط وبارود وسواريخ تصعد في الهواء.
وفي يوم الخميس ثامن عشرينه، وصلت عدة مراكب وبها أسرى وعساكر جرحى، وكذلك يوم الجمعة تاسع عشرينه حضرت مكاتبة من الفرنسيس بحكاية الحالة التي وقعت لم أقف على صورتها.